لم يرد لفظ التربية بالاسم في القرآن الكريم، ولكن نجد الجذر "رب" بجميع المعاني السابقة، والاشتقاقات المتفرعة عنه، وصلت إلى ألف وتسع مرات (1009) في القرآن الكريم. كما أن لفظ "رب" هو أكثر الألفاظ تكرارا في كتاب الله تعالى حيث ذكر تسعمائة وتسعة وثمانين مرة (989)مضافا إلى عدة أشياء منها "العالمين" واحد وأربعون مرة، و"السماوات والأرض وما بينهما" ست عشرة مرة، و"الأنبياء" ثلاث مرات، و"العزة" ثلاث مرات، و"العرش" ست مرات، و"الإنسان" أربع مرات، و"كل شيء" ثلاث مرات، كما أضيف إلى ضمير المتكلم المفرد والجماعة والمخاطب ثمانمائة وتسع عشرة مرة (819). كما ورد لفظ "رب" بجميع معانيه السابقة وهي كالآتي :
- بمعنى السيادة والملك.
نجد هذا المعنى في جميع الآيات التي ورد فيها ذكر الرب من: ]الحمد لله رب العالمين[ إلى ]قل أعوذ برب الناس[. «فالرب هنا هو المربي لجميع العالمين، وهم من سوى الله، بخلقه إياهم وإعداده لهم الآلات، وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة، التي لو فقدوها لم يكن لهم البقاء، فما بهم من نعمة فمنه تعالى، كما أن تربيته لخلقه نوعان، عامة وخاصة:
فالعامة: هي خلقه للمخلوقين، ورزقهم، وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا.
والخاصة: هي تربية لأوليائه، فيربيهم بالإيمان، ويوفقهم له، ويكملهم ويدفع عنهم الصوارف والعوائق الحائلة بينهم وبينه. وحقيقتها: تربية التوفيق لكل خير، والعصمة من كل شر». فالله تعالى وتبارك لم يخلق الكون ثم يتركه هملا وإنما هو يتصرف فيه بالإصلاح ويرعاه بالتربية.
وقد ورد لفظ الرب كذلك بصور عديدة منها بصورة الجمع "أربابا"، مثل قوله تعالى: ]قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا اله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله[. ومنها ما ينسب إلى الرب مثل "ربيون" في قوله تعالى: ]كأين من نبيء قتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، والله يحب الصابرين[. و"ربانيون" في قوله تعالى: ]ما كان لبشر أن يوتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول لناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون[.
والتربية مشتقة من الربوبية التي هي نعمة الله التي عمت الكون كله، ورحمته الواسعة. «والربانيون جمع رباني، وهم المنتسبون إلى الرب، إما بمعنى الخالق المدبر لأمر الملك، لأنهم يعنون بالعلم الإلهي والتهذيب الروحاني، وإما مصدر ربه يربه أي رباه، لأنهم يربون أنفسهم ثم غيرهم بالعلم والعرفان وأحاسين الآداب والأخلاق".
- بمعنى الزيادة والنماء والعلو.
فقد وردت في خمسة عشر موضعا في القرآن الكريم. مثل قوله تعالى: ]ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت، إن الذي أحياها لمحيي الموتى، إنه على كل شيء قدير[. والاهتزاز حقيقته مطاوعة الشيء إذا حرك بعد سكون وخمود، وهو هنا مستعار لربو وجه الأرض بالنبات. «والربو يعني: الزيادة والعلو أي زادت زيادة المتربي".
- بمعنى العناية والرعاية والتغذية.
فقد وردت آيتان في القرآن الكريم بهذا المعنى، وهي قوله تعالى: ]واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا[. في هذه الآية يأمر الله سبحانه وتعالى عباده بالترحم على آباءهم والدعاء لهم، وأن يرحمهما كما رحماه، ويرفق بهما كما رفقا به، إذ ولياه صغيرا جاهلا محتاجا فآثراه على نفسيهما، وسهرا ليلهما، وجاعا وأشبعاه، وتعريا كسواه. فلا يجازيهما إلا إن يبلغا من الكبر الحد الذي كان فيه من الصغر، فيلي منهما ما ولياه منه. وقوله تعالى: ]قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين[ . «والمقصود هنا الإقرار بوقوع التربية مجاراة لحال موسى في نظر فرعون إذ رأى في هذا الكلام جرأة عليه لا تناسب حال من هو ممنون لأسرته بالتربية، لأنها تقتضي المحبة والبر وأن يمجد أنه مربى منهم».
فباستقراء كل آيات القرآن الكريم نجد لفظ "رب" هو الأكثر تكرارا من غيره من المشتقات، وأنه منسوب إلى أمور متعددة، يستفاد منها أنه سبحانه وتعالى شامل بربوبيته لكل الموجودات. ومن ثم فهو سبحانه شامل لها بتربيته وبما أن هذا الرب هو الموجد لكل المخلوقات والمدبر لشؤونها والمتحكم في مصائرها وأرزاقها، وكل ما يتعلق بوجودها وعدمها، فإن هذه الأمور وسائر ما يصدر عنه سبحانه يعتبر تربية منه لموجوداته. يقول الرازي في تأويله: «]رب العالمين[ الوارد في سورة الفاتحة وقوله ]رب العالمين[ معناه أن وجود كل ما سواه فائض عن تربيته».
إذن فالتربية تحمل عدة معاني ودلالات عميقة يجب على كل المهتمين والفاعلين التربويين في مجال التربية والتعليم أن يعتمدوا على المقاربة القرآنية للمصطلح التربية من أجل الخروج من أزمة القيم التي تهدد المنظومة التربوية برمتها.
محمد البوشيخي